تأثير الإعادة القسرية للمهاجرين في أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا

طارق لملوم: رئيس جمعية بلادي لحقوق الإنسان


في أعقاب ثورة السابع عشر من فبراير 2011، شهدت ليبيا اندلاع النزاعات المسلحة، وتفكك الأجهزة الأمنية وتنوعها وتداخل المهام بينها وعدم وضوح صلاحيات كل منها بشكل دقيق؛ هذا الأمر أدى إلى عدم وضوح المسؤولية في حماية المهاجرين وطالبي اللجوء، ولم يعد هناك مسار واضح نعرف من خلاله مصير المهاجرين الذين قررت السلطات الليبية إخراجهم من ليبيا، سواء عبر ترحيلهم استنادًا إلى القانون رقم 19 لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية أو إعادتهم “طواعية” عن طريق المنظمات الدولية المعنية، لا سيما المنظمة الدولية للهجرة، في إطار ما يسمى ببرنامج العودة الطوعية الذي يدور بشأنه جدل واسع بين المراقبين والمتابعين للشأن الليبي؛ حيث يتم التشكيك في كونها عودة “طوعية” بسبب إخضاع غالبية المستفيدين من البرنامج للاحتجاز وحرمانهم من الحرية خلال فترة اتخاذ قرار العودة.

علاوة على ذلك، دأبت بعض الأجهزة الأمنية على القيام بإرجاع المهاجرين عبر المنافذ الحدودية في الجنوب الليبي. على سبيل المثال، يستقبل مركز احتجاز الكفرة، وهو مركز تابع لحكومة الشرق الليبي، رحلات برية تأتي من مركز احتجاز شرق ليبيا، ومن ثم يقوم بدوره بنقلهم إلى الحدود التشادية والسودانية، بوساطة سيارات صحراوية أو شاحنات، كما يتم فصل العديد من العائلات بعضها عن بعض وإرجاع بعض المهاجرين وترك جزء من عائلاتهم في مدن أخرى. وكان لعودة المهاجرين بهذه الطريقة المهينة آثار خطيرة على أرواحهم وصحتهم البدنية والنفسية؛ فالكثير منهم يتم ترحيله في شاحنات، ويتم إجبارهم على الوقوف طيلة مدة الرحلة.

بالإضافة إلى ذلك، قامت الجهات الحكومية في الجنوب الليبي بإرجاع قسري لعدد من طالبي اللجوء والحماية، من بينهم عدد من الصوماليين، عبر البحر إلى دولة تشاد والسودان؛ هذا الأمر آثار استنكار العديد من الجهات الحقوقية المعنية التي خاطبت المفوضية السامية لشئون اللاجئين والسلطات الليبية في رسالة تطلب فيها أخذ الحذر من التعامل مع طالبي اللجوء بوصفهم مهاجرين ويمكن إعادتهم قسريًا، كما شددت على ضرورة إخلاء سبيلهم والامتناع عن احتجازهم.


مدى قانونية إجراءات إعادة المهاجرين

قبل الخوض في قانونية إجراءات الإعادة القسرية للمهاجرين، من المهم أن نعترف بوجود فوضى قانونية وإدارية في ليبيا بشأن تصنيف المهاجرين، بالإضافة إلى عدم اعتراف الدولة بأن الهجرة لديها مختلطة وأن هناك طالبي حماية ولجوء، ولا يمكن بحال من الأحوال وصفهم بالمهاجرين. فالقانون الليبي ما زال يشهد التناقض في تجريم كل من يدخل الأراضي الليبية دون اتباع الإجراءات القانونية اللازمة، ويقضي بسجنه وفرض غرامة تصل إلى 1000 دينار، ثم تقوم السلطات بالإبعاد حسب القانون رقم 19 الذي يجرم الدخول لليبيا بدون أوراق رسمية، ولكن الوضع يختلف على أرض الواقع، فالسلطات الليبية تركت منذ سنوات مهمة الترحيل من المدن إلى المنظمة الدولية للهجرة فيما أصبح يعرف ببرنامج العودة الطوعية، حيث تقوم السلطات الليبية، متمثلة في جهاز الهجرة، باعتقال المهاجرين وطالبي اللجوء وتسمح للمنظمات الدولية بتسجيلهم لغرض إعادتهم إلى ديارهم. وفي هذه الحالة لا يتدخل القضاء الليبي ولا تتم محاكمتهم؛ لأن المنظمة الدولية للهجرة لا تتعامل مع أي مهاجر صدر بحقه حكم إبعاد من السلطات، فهي تقوم بالتعامل مع الراغبين في العودة الطوعية، إلا أن الوضع الحقيقي لأولئك المهاجرين في داخل مراكز الاحتجاز الليبية، يجعلنا نستبعد فرضية أنهم تمتعوا بالحرية الكاملة واتخذوا قرار العودة لديارهم دون إكراه.

© image: https://www.alaraby.co.uk ©

مدى تورط السلطات الليبية في انتهاك حقوق المهاجرين

في البداية نجد من المهم تحديد ماهية السلطات الليبية التي أصبحت تأخذ أشكالًا عدة خلال السنوات الماضية؛ حيث تعاني الحكومات الليبية المتعاقبة من فوضي مستمرة ومن عدم القدرة على التحكم الكامل في الجهات الأمنية التي تكون تحت إمرتها. هذا، فضلا عن وجود بعض مراكز احتجاز المهاجرين غير القانونية في أماكن متفرقة في البلاد، ولا تعمل تحت إشراف جهاز الهجرة، ولا تستقبل تلك المراكز زيارات من مسئولي الجهاز ولا تحصل منه علي أي دعم؛ إذ يرى رئيس الجهاز أن تلك المراكز غير خاضعة لإشرافه.

وفي ظل المخاطر التي تواجه المجتمع المدني وصعوبة الوصول إلى المعلومات؛ نجد أهم مصدر للمعلومات الموثوقة – بشأن الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون وطالبو اللجوء، من قِبل جهات أمنية تابعة للدولة – هو المهاجرين أنفسهم، حيث لم يتوقفوا طوال السنوات الماضية عن الشكوى وتقديم شهاداتهم على مسئولية رجال الأمن، والمسؤولين في مراكز الاحتجاز، عما ينالونه من إهانة لكرامتهم وانتقاص لحقوقهم. وإن كان هذا الأمر لا ينطبق على كل المراكز، إلا أن غالبية مراكز الاحتجاز يتعرض فيها المهاجرون لأعمال السخرة والاحتجاز التعسفي والحرمان من الطعام والرعاية الصحية. على سبيل المثال، توفي 21 من طالبي اللجوء في مركز احتجاز الزنتان عام 2018 بسبب مرض السل، ورغم المناشدات والنداءات الصادرة عن جهات محلية ودولية إلى الجهات الحكومية ومسؤولي المركز- فإن المسئولين في مركز الاحتجاز دأبوا لفترات طويلة على منع الجهات الإنسانية من الوصول إلى المهاجرين؛ الأمر الذي أسفر عن وضع كارثي للمحتجزين الذي يعانون من سوء التغذية والأمراض المعدية، في ظل حرمانهم من الوصول إلى الرعاية الصحية الملائمة.

موقف المجتمع الدولي والمنظمات الدولية من تعامل السلطات الليبية مع المهاجرين

يتعامل المجتمع الدولي مع ملف الهجرة بطرق تقليدية، ولا يكترث بالمتابعة الحقيقية للوضع الإنساني؛ لا سيما وضع النساء والأطفال وطرق إخراجهم من ليبيا، إذ يركز المجتمع الدولي على تمويل منظمات بعينها، أكبرها وأهمها: المنظمة الدولية للهجرة أو المفوضية السامية لشئون اللاجئين. وبالرغم من اهتمام الاتحاد الأوروبي بدعم المنظمات غير الحكومية الليبية منذ عام 2011- فإن التوعية بخطورة الإعادة القسرية والانتهاكات التي تطول المهاجرين وطالبي اللجوء، لا تحظى بالعناية اللازمة مقارنة بالدعم والاهتمام بالجهات التي يثار حولها مزاعم قيامها بانتهاكات حقوقية، كما أن المنظمات الدولية في الغالب صوتها منخفض أمام السلطات الليبية، باستثناء منظمة أطباء بلا حدود التي لا تتحصل على تمويلها من دول الاتحاد الأوروبي. وبالرغم أن المنظمات الدولية تصدر بيانات وتصريحات تندد فيها بأوضاع المهاجرين وطالبي اللجوء، فإن خطورة الوضع وحجم الانتهاكات يتطلب من هذه المنظمات اتخاذ مواقف موحدة وحاسمة بشأن طبيعة تعاملها مع السلطات الليبية.

 توصيات للسلطات الليبية والمجتمع الدولي والمنظمات الدولية المعنية:

أولاً: السلطات الليبية

  • من المهم أن تحسم السلطات الليبية أمرها بشأن التعامل مع المسجلين لدى المفوضية السامية لشئون اللاجئين وأن تتوقف عن احتجازهم؛ ما دامت قد سمحت للمفوضية بالوجود والعمل في ليبيا؛
  • يجب ألا يكون قرار إعادة المهاجرين من ليبيا إلى ديارهم متروكًا فقط للجهات الأمنية، بل يجب أن يصدر القرار بعد فحص وعرض على جهات قانونية وخبراء من منظمات حقوقية ليبية معنية بأوضاع المهاجرين؛ للتأكد من قانونية هذا الترحيل؛
  • اتخاذ سياسة واضحة مع اللاجئين المسجلين لدى المفوضية السامية لشئون اللاجئين وتوفير القدر اللازم من الحماية والرعاية الصحية لهم؛
  • في حالة احتجاز النساء في مراكز تابعة لجهاز الهجرة أو غيرها؛ فعلى إدارة السجون في وزارة الداخلية الالتزام باللوائح التنظيمية، ومنها توفير حراسة من العنصر النسائي ومنع إشراف الرجال على أماكن النساء، خاصة أثناء الليل أو خلال الأوقات التي تزعم النساء أنهن يتعرضن فيها لانتهاكات ومضايقات؛
  • على حكومة الوحدة الوطنية تشكيل فريق قانوني مختص ينظر في مدى التزام الدولة بالاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها، والعمل فورًا على مراجعة القوانين وإجراء التعديلات اللازمة عليها لتكون متماشية مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

ثانيًا: الاتحاد الأوروبي

  • يجب أن يتوقف الاتحاد الأوروبي عن الاستمرار في دعم أي جهات ليبية قد تكون متورطة في إعادة قسرية لطالبي حماية أو لجوء أو معرضين للخطر؛
  • من المهم أن يعطي الاتحاد الأوربي الأولوية لتفعيل رحلات الإجلاء من ليبيا، وحث مفوضية اللاجئين على البت في ملفات وطلبات المسجلين لديها من الفئات الضعيفة، مثل النساء والقاصرين، بأسرع وقت؛ لضمان خروجهم من ليبيا بطرق آمنة.
  • إصدار توصيات واضحة من الاتحاد الأوروبي للمنظمات الدولية، وخاصة المنظمة الدولية للهجرة، لحثها على عدم التهاون في السماح بإعادة المهاجرين، خاصة الذين يعانون من الأمراض الخطيرة لديارهم، والعمل على إيجاد بدائل بشكل سريع ونقلهم إلى بلد ثالث.
  • التحدث بوضوح وقوة مع المسؤولين الليبيين ووضع شروط تربط أي دعم تحصل عليه الحكومة ومؤسسات الدولة الليبية، باحترام وتعزيز حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق المهاجرين وطالبي اللجوء.

ثالثًا: الولايات المتحدة الأمريكية

  • من المفيد أن تعمل الولايات المتحدة على دعم ملف المهاجرين في ليبيا بشكل مختلف وبآليات جديدة؛ مثل دعم الهلال الأحمر الليبي الذي يمكن التعويل عليه في حماية المهاجرين وطالبي اللجوء، وكذلك دعم مشاريع جادة في دول المصدر والجنوب الليبي تعمل على حماية القاصرين والنساء المعرضين للخطر.
  • يجب أن يكون للولايات المتحدة دور حقيقي وملموس في تسريع خطة الإجلاء من ليبيا، التي تقتضي نقل المهاجرين المعرضين للخطر إلى بلد ثالث لحين توطينهم في دول لجوء.

رابعًا: المنظمات الدولية المعنية

  • يجب عليها أن تختار موظفيها بعناية فائقة، خصوصا من سيعملون بشكل مباشر مع طالبي اللجوء والمهاجرين وأن تكون مبادئ حقوق الإنسان من المعايير والشروط الأساسية لقبول انضمامهم لفريق العمل في هذه المنظمات.
  • يجب على المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن يكون لها صوت مرتفع في الرد على السلطات الليبية في قضية الإعادة القسرية، وأن ترفض بشكل قاطع لا يحتمل التأويل أي محاولات إعادة قسرية لطالبي لجوء أو لمسجلين لديها.
  • على المنظمة الدولية للهجرة أن تعيد النظر في مشروع العودة الطوعية، وأن يكون هناك حرص شديد في التمييز بين المهاجرين المكرهين على “اختيار” العودة بسبب سوء أوضاعهم في مراكز الاحتجاز وتعرضهم للتعذيب وتدهور أوضاعهم الصحية، وبين من يرغبون فعلا في العودة الطوعية لأوطانهم دون إكراه.